عندما
أصرَّ أحدُ الإخوةِ أن أعدَّ موضوعاً ألقيهِ على مسامع الناس، راقت لي
الفكرة، فطفقتُ أكتب وأبحث وأقرأ، وأفتّش عمّا سأقول، فانتهيتُ إلى موضوعٍ
استعظمتُ مثلَه على مثلي، واستكثرتُ بضاعته على زهدِ بضاعتي، ولكني لم أجد
موضوعاً أكثرَ منه مناسبة، فاستعنتُ بالله وارتديتُ ثوباً ليسَ على مقاسي،
فاعددتُ جلَّ الأفكار التي سأطرحها في ورقة، كي أتركَ لنفسي مجالاً
للإرتجال حينئذٍ، وذهبتُ إلى مُقْتَرِحِ الفكرة، وأخبرته بما توصّلتُ إليه،
فأدخلني إلى غرفةٍ ملأى بالحضور، وأخذ يتناقشُ معهم في مناسبة موضوعي
المُقْتَرَح أو عدم مناسبته! وكنتُ على شفا حفرةٍ من القلق، ولم ينضبْ
العرق ينصبُّ من جبيني، حتى فرغوا فقال: إنّا والله نعزمُ على ألاّ نفرط
بأمثالك، ولكن مُقتَرحَك طلاسم وأكاذيب، وإننا نسعى لإستنهاضِ الهمم
والآمال، لا بحجبها بتُرَّهاتِ الكذب والخيال....
ولستُ بخادعكم،
فقد حزنتُ على ذلكَ كثيراً، واستغرقتُ للإفاقةِ من أثر الصدمة وقتاً
طويلاً، فلّما نَهضت عزيمتي ورُدَّت لي طاقتي، أخذتُ أفتِّشُ عن مواطن
الكذب والخيال في مُقْتَرَحي السابق، فما وجدتُ أثراً لما قاله الصديقُ،
فاهتديتُ أن أعودَ إلى مكتبي، وأنشأتُ أكتبُ في أوراقي، وعدتُ أدراجي
وهممتُ بأن أجعل فكرتي في مقالة، فما لي والخطابة؟ إني أُحبّها وأُجيدها،
ولكنَّ أهلها (المسؤولين عنها) لا يحبّونني ولا يرونني جديراً بها.. وإني
اِستعنتُ بالله أن أعرضَ المُقْترَحاتِ عليكم فاستعينوا بالله واصبروا
عليَّ، ولا تستعجلوا وتظنّوا أن هذا ليسَ نثراً، فما هو النثرُ إن لم يكن
هذا نثراً؟ وهل النثرُ إلاّ تعابير وفيض؟ واسترسال وفضفضات؟ إنَّ هذا نثرٌ
وصفيّ، لا يقتصر على وصفِ حالتي بعد إذ صُدمت، بل يصف حال كثيرين، من
أمثالي ومن أمثالِ صديقنا القديم..
******
شرعتُ بالردِّ
على القائلين بانقراضِ الأبطالِ المسلمين، وأسهبتُ بالحديثِ عن رجوع العزة
والشموخ عمّا قريب، وأعلنتُ البِشاراتِ لمحاربي الدين بأن يومهم آت،
وأخبرتُ اليائسين القانطين بأن مافات قد مات.
إنَّ الأمَةَ
الإسلاميّة لا تكلَّ من وِلادةِ الأبطال، فويحكم هل وصفتموها بالعقْم بعدَ
إذ رميتموها بإنقراضِ أبطالها؟ إنَّ كلَّ أمّةٍ تصابُ بالأدواء، وتبقى
طريحةَ الفراش حتى تموت، إلا هذه الأمّة، فإنها إن أصيبتُ تنازع الأمراض،
وإن طُرحت على الفراش استنفرتْ أبطالها، فقد اِعتادتْ الجلوس في أولِ
الركب، وبوّأتْ لنفسها مكاناً على رأسِ الهرم، فهي لا تطيق أن تُطرحَ مريضة
كلْمَى، إنَّ محاربيها وصفوها بالعقم بعد وفاةِ خالدَ بن الوليد، فقالوا:
لقد أنجبتْ بطلاً، ومات البطل، فما لها من قوةٍ ولا ناصر! ونسواْ أن
ناصرَها هو الله، وأنَّ الله قد شرَع في سننِ هذا الكون أن جعلَ هذه الأمةَ
تلدُ الأبطال، وتبعثُ الرجال، وسخّرَ للدين بطلاً من الأبطالِ يأتي على
رأسِ كلِّ مائة عام، فكذّبوا بذلك، وماذلك إلا نتاج ضعف إيمانهم، إنّه قد
جاء أبطال وأبطال بعد خالدَ بن الوليد، لقد جاء قتيبةَ بن مسلم، فلّما ماتَ
عدتم سيرتكم الأولى، فجاء صلاحُ الدين، وهكذا حتى مُلئت كتبُ التاريخ
بأسماء الأبطال والفاتحين، وقد فضّلَ اللهُ هذه الأمّة بأن سخّرَ لها
علماءً لا يكلّون، فإن قلتم: قُبضَ العلمُ بموتِ ابن تيميّة، فقد أخطأتم،
فإن الله قد شرعَ بأن يأتيَ يومٌ يُقبضُ فيه العلم، لا ينتزعه اِنتزاعاً من
قلوب العباد، ولكن ينتزعه بقبض العلماء، ولكنَّ هذا ليس الآن، فإن أمتنا
الآن تحفلُ بالعلماء، ولكنكم لا توالونهم، وتوالون من يعاديهم، وتتجاهلون
حضورهم، لقد أكثرتم من قولكم: اِنقرضَ الزّهاد، وتذبذبَ الإسلام، فكاد
يسقط، بل أنه سقط.
وهل يسقطُ الإسلامُ ويحكم؟! لقد جعلَ الله في كلِّ
عصر المسابقين بالخيرات والمقتصدين والظالمي أنفسهم، وأنتم تظلمون أنفسكم
ولا تروْنَ إلا من كان على شاكلتكم، وتنكرون وجودَ طبقتين هي أعلى منكم..
إنَّ
العزةَ آتية، وإن آجالكم أيها الطغاة البغاة، من أمثالِ بشار الـ.... آتية
لا محالة، وإنَّكم تحاربون السنّة، لأنّكم تعلمون أنّها إن عادتْ لمجدها،
فسَتُمَجِّدُ معها العالم قاطبة، وإنكم تعلمون أننا لو عدنا كما كنّا،
لخمدتْ نارُكم، ولضاعت شهواتكم.. ولكنّا و-يا أسفي عليكم- إنّا قادمون لا
محالة، فإمّا أن تتوبوا وتعودوا إلى ربّكم، وإمّا أن تُعذبوا، وبئسَ عذابُ
الظالمين.
( نقلتها عن أخي الأديب الجِهبِذ أبو البراء، الذي أرجو أن يوافينا وينضم إلينا عمّا قريب).